شكل وصول علي عبد الله صالح إلى السلطة في 17 يوليو/تموز 1978 انتصاراً للقبيلة، فالرجل ينحدر من سنحان، وهي إحدى بطون قبيلة حاشد أقوى القبائل اليمنية وأكثرها تماسكاً ونفوذا، ًفرأى مشايخ حاشد وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الأحمر في وصوله تطوراً إيجابياً لصالحهم فانتهت معارضتهم لنظام الحكم.
وفي نفس الوقت عمل علي عبد الله صالح على احتواء بقية المشايخ إذ قام في 8 أبريل/نيسان 1979 برفع عدد أعضاء مجلس الشعب إلى 159 عضواً، وعين كلاً من الشيخ سنان أبو لحوم والشيخ أحمد علي المطري والشيخ صادق أمين أبو رأس أعضاءً فيه. وأوكل إلى آخرين إدارة بعض المؤسسات وغض الطرف عن تجاوزاتهم المالية.
وعمل على استقطاب بعض المشايخ وركزهم في مناصب استشارية صورية بحجة حاجته لمشورتهم، وأغدق عليهم الأموال. كما خلق الأرضية المناسبة لانخراطهم في العمل التجاري بإعفائهم من الالتزامات الضريبية والجمركية، فاندفع البعض في هذا الميدان حتى أصبحوا أصحاب مؤسسات وشركات وبيوت تجارية كبرى تفرغوا لإدارتها، وبقي البعض يجمع بين المنصب الحكومي والعمل السياسي وعمل على دفع أبنائه للانخراط في السلك العسكري والدبلوماسي والابتعاث إلى الخارج، وخصهم بأفضل المنح وابتعثهم إلى أرقى الجامعات بصرف النظر عن أهلية الكثير منهم.
وقام باستقطاب المشايخ والمتنفذين وقادة الرأي في الأرياف وأدرج أسماءهم في سجلات مصلحة شؤون القبائل التي تصرف لهم مرتبات شهرية ثابتة مقابل شراء ولائهم وبذلك ربط مصير كل هؤلاء بمصير النظام.
وبعد أن تمكن من إزاحة أهم منافسيه وهم محسن فلاح قائد الشرطة العسكرية ومحمد خميس وزير الداخلية، قام بإسناد أهم المناصب في قيادة القوات المسلحة والأمن إلى إخوانه وأبناء عشيرته من سنحان وأقصى منافسيهم، وتتكون سنحان من 23 قرية موزعة على أربعة أجزاء هي:
الجزء الشرقي ويشمل قرى: بيت الأحمر، وبيت الضنين، وسيان، ومقولة، وشيعان، والسرين، وشعسان، وذرح، وبيت الشاطبي، ويتركز في هذا الجزء وحده حوالي 70% من المناصب العسكرية، ويمسك بيت الأحمر منهم 40% منها.
والجزء الغربي ويشمل قرى: حزيز، وغمد، والتخراف، والمحاقرة، وسامك، ويحظى بـ 3% فقط من إجمالي المناصب العسكرية.
والجزء الشمالي ويشمل قرى: وادي الأجيار، وريمة حمد، والجرداء، ودار سلم، ويسيطر على 27%.
والجزء الجنوبي ويتكون من قرى: وادي الفردات، ومسعود، والجحشي، والجيرف، والصبر، ولا يحظى بأي منصب قيادي. ولكن توجد إلى جانب المناصب القيادية عشرات المناصب الفنية والإدارية والمالية والعملياتية والتي يغلب عليها سيطرة نفس الفصيل القبلي.
ويمكن أن يوجد قادة معسكرات من خارج سنحان ولكن يشترط فيهم الولاء الشديد، بالإضافة إلى أن تموضعهم لا يكون إلا في المناطق الحدودية والنائية أو في الجزر اليمنية المتناثرة في البحر الأحمر والبحر العربي، حيث يفصلهم عن صنعاء بحر ومئات من الكيلو مترات وعشرات المعسكرات التي تديرها سنحان.
وفي الواقع إن من يمسك بزمام السلطة في اليمن هو على وجه الحصر مركز اتخاذ القرار يليه الرباعي المتنفذ من أبناء الرئيس وإخوانه وأبناء إخوانه، ويتكون من:
قائد الحرس الجمهوري وهو نجل الرئيس الذي يسيطر بقوات الحرس البالغة 30 ألف رجل، وفرق القوات الخاصة على مداخل صنعاء من جهاتها الأربع.
يليه قائد الفرقة الأولى مدرعة ويقودها أخ غير شقيق للرئيس، والتي تتكون من عدة ألوية جيدة التسليح وتسيطر على المحور الغربي، وقد تعمد النظام إضعافها في الآونة الأخيرة بالزج بها في خمسة حروب مع الحوثي.
وقائد وحدات الأمن المركزي وهو ابن أخ الرئيس التي تسيطر على كافة المدن اليمنية بما فيها العاصمة صنعاء.
وقائد سلاح الطيران، ويقوده أخ الرئيس، الرابض في مطار صنعاء شمال صنعاء وفي كافة المطارات اليمنية.
وبعد هذا الرباعي تأتي بقية القيادات الأدنى نفوذاً والتي تقترب أو تبتعد مواقعها من صنعاء بدرجة اقتراب أو ابتعاد درجة قرابتها من المركب العسكري القبلي.
إن مركز اتخاذ القرار قد استفاد دون أدنى شك من تجربة بيت حميد الدين الذين أبقوا القوات المسلحة في يد عسكريين من أبناء الشعب، فكانت النتيجة أن انقلب هؤلاء القادة وأطاحوا بالأسرة المالكة، كما استفاد من تجربة الحمدي الذي راهن كثيراً على شعبيته، والدرس الذي استقاه من هذه التجربة هو: أن الشعب ورقة غير مؤثرة والرهان لا يكون إلا على الآلة العسكرية والنخبة الفاعلة.
لقد أسس علي عبد الله صالح تركيبة شبه محكمة ولكنها رغم ذلك لا تخلو من ثغرات، فالقيادة العسكرية بهذه التركيبة هي نخبة مغلقة يصعب تجديدها، وإن جددت ففي مواقع هامشية ومن داخل الفصيل القبلي نفسه، فأصبح ينظر إليها على أنها أصبحت عقبة كأداء في طريق تحديث وتطوير المؤسسة العسكرية، وبناء جيش محترف، لاسيما وأن أغلب القيادات وأكثرها نفوذاً شخصيات ليست على الدرجة المطلوبة من التعليم.
ويزيد من صعوبة هذا الوضع سرعة الحراك داخل المؤسسة العسكرية، حيث أن الكليات والمعاهد العسكرية ترفدها سنوياً بآلاف الكوادر، فيجد هؤلاء أنفسهم وقد وضعوا في مواقع هامشية لا تتناسب مع كفاءتهم ومهاراتهم في حين أن قياداتهم هي عناصر شبه أمية ومؤهلها الوحيد هو انتماؤها القبلي.
ومن أبدى تذمراً من هؤلاء أحيل إلى السلك المدني أو إلى التقاعد المبكر حتى ولو كان لا يزال في ريعان الشباب، الأمر الذي يخلق مشاعر عدائية متنامية في أوساط الجيش، ويرسخ قناعة لدى الكثير من ضباطه بأن الجيش قد خرج عن الأهداف المنوطة به وأصبح جيشاً مكرساً لحماية سلطة ونفوذ ومصالح المركب العسكري القبلي.
زد على ذلك أن تفشي الفساد في المؤسسة العسكرية وترهلها بازدياد عدد المنتفعين من المشايخ والوجهاء الذين منحهم النظام الرتب العسكرية الرفيعة والمرتبات الشهرية مقابل ولائهم له، رغم أنه لا صلة لهم بالجيش والعمل العسكري وتقتصر علاقتهم به باستلام مرتباتهم آخر كل شهر، الأمر الذي جعل المؤسسة العسكرية بهذه الصفة ذات أثر سلبي على الاقتصاد الوطني لا سيما وأنها بمنأى عن أي محاسبة.
يضاف إلى ذلك بناءها القائم على أن تكون مؤسسات عسكرية في مواجهة بعضها البعض وليس مؤسسة واحدة، فهي تفتقر إلى العقيدة العسكرية والى وحدة الهدف، كما أن العلاقة داخل الفصيل القبلي الممسك بزمامها ككل وداخل المركب العسكري القبلي على وجه التحديد هي علاقة تصادمية كما برهنت الكثير من الأحداث، ولا يجمعهم سوى الخوف من أن تتفاقم خلافاتهم فيفلت زمام السلطة من بين أيديهم فتكون نهاية الجميع.