اليمن: القات والقبيلة والقاعدة
بكل الوجل والشوق، أدخل اليمن مقتبل المساء وكأنني المسافر إلى خارج المألوف هذه المرة رغم كل الذي ذهبت إليه من قبل، وفي جهات الدنيا الأربع. أخرج منها في نهاية الزيارة القصيرة متأسفا أنني تركت هذا المكان منذ أن عرفت قيمة الأسفار والرحيل، وحزينا مرة أخرى لأنني مأسور بالشمال والشرق والغرب دون أن أعرف أن متحف الحياة الإنساني والاجتماعي يقبع خلف ظهري مباشرة دون القدرة على الالتفات إليه. إنها التركيبة الطبيعية للرقبة التي تترك ديناميكية الحركة فيها زاوية مجهولة بحسب الوجهة التي اعتادت أن تتجه إليها. هذه أشعة الشمس صباح اليوم التالي قدر رمح وهذه هي مدينة – زبيد – بكل العبق التاريخي الذي قدمها ذات يوم من كتبه كواحدة من قلاع الفكر ومحاضن العلم الشرعي التي كادت به أن تبز كل حواضر ومحاضن هذه الجزيرة كاملة. هنا جماعة أبي موسى الأشعري، الذين كانوا بحسب المأثور النبوي الكريم قوم إذا حلت بهم المجاعة أخرج كل فرد منهم ما في بيته وأكلوا جماعة. هنا مسجد الأشاعرة، بكل الحزن وفيه عاش الإمام الشافعي الزبيدي وكتب فيه أحسن مختصرات صحيح البخاري، وفيه أيضا كتب مخطوطه الشهير (تاج العروس في شرح القاموس) وهو أوسع معاجم هذه اللغة قاطبة على التاريخ. هنا زبيد: متر من الغبار وأرتال من البؤس على الأوجه المدقعة وبقايا آثار في لسان الدليل السياحي، وهنا زبيد، التي تثبت بكل الاختصار أن الأماكن والحضارات لا تشيخ فحسب، بل تتحول على العكس، إلى مرحلة طفولية بدائية. غادرت زبيد حزينا إنها اليوم ليست بشيء من تلك الصور التي قرأت ولا حتى بشيء من بقية أطلال تلوح (كباقي الوشم) في سهول تلك التهائم اليمنية الشاسعة المجدبة.
تتبدى أمامي صورة اليمن المردوف بالسعيد طبقا للوازم اللغة وربما استحضارا لما مضى من تاريخ وأجمل ما يمكن أن يوصف به هذا المكان ليس إلا مستودع الوجوه. وجوه الملايين من أهله التي تبدو في المجمل – كربونية – بقاسم مشترك ومع هذا من التباين فلا وجه يشبه وجها. وفي بعض الأماكن التي تستعصي تماما على حياة الإنسان تكاد بعض الوجوه أن تسألني: لم الحياة؟ وفي بعضها الآخر سؤال العدالة الإنسانية الذي يريد أن يقتص من كل وجه في هذه الدنيا سنحت له الحياة بأن سمحت له بالفرصة حين يسألني أيضا: متى تقوم الساعة؟ اكتشفت في اليمن أن الفقر قد يهزم الوجوه والعيون والجلد، وقد يشل من الإنسان قواه من العضلات والعظام ولكنه لن يهزم الأنفة والكرامة والعزة والاعتداد بالنفس، وهي هنا بالبرهان والدليل في تلك الوجوه التي يصلح الطارف منها شرحا وافيا للبيت العاشر من معلقة عمرو بن كلثوم.
اليمن اليوم ضحية كل اللوازم في حرف القاف: القات والقبيلة والقاعدة، ولهذا الحرف وطأته الهائلة على الوجوه والمكان لأنه ابتداء القهر والقسوة والقلة مثلما هو يتوسط مفردة – الفقر – التي توسطت هذا المكان.
وفي كل هذه الظروف لم يعد مستغربا أن يتحول – القات – إلى منهج حياة لأنه السلوى الوحيدة التي يقضي بها اليمني بياض نهاره القارس القاسي حين تحولت هذه الشجرة إلى طقوس. طقوس للهرب من وطأة الظروف والواقع التي جرب هذا الإنسان المكافح الصبور أن يتحايل عليها وأن يتغلب عليها بكل ما شاء من لذة التفكير ثم اكتشفت أن أحكام المكان وموارده أقل من أن تساعده على الانتصار فهرب إلى هذه السلوى بلا اعتدال. ومثلما كانت هذه الشجرة سيدة الجبال والحقول وجلسة المقيل والحوار واللقاء مثلما هي القاسم المشترك في صور تلك الوجوه الحنطية التي تآلفت وتصالحت وأحبت بعضها البعض حد التطابق في الشكل العجيب: إنهم يمضغونها إلى اليسار من الفم إمعانا في التوحد وتصالحا مع الذات وأمانا وأمنا مدهشا حد الخرافة لا يثبت إلا أن الأمن يبنع من طبيعة المجتمع لا بالعسكرة والتقنية.
الآن، أبدأ منتصف الرحلة متسلقا هذه الجبال الشاهقة التي تبدو أي جبال شاهدتها من قبل في حياتي مجرد أغنام رابضة. بجوار قافلة من الجمال. تبدأ هذه الجبال بالصدفة من قرية اسمها – القاعدة – ومخطئ جدا من يظن أن اليمني قاعدي عكس قواعده الآمنة الهادئة المسالمة. تتغلغل القاعدة في هذا النسيج استغلالا لكل حروف القاف لأن تمويل فرد من منظومتها يكفي وحده حياة جبل أو قرية. تذهب القاعدة كتنظيم إلى الإنسان الطبيعي الفطري وتدغدغ عواطفه بشعاراتها الزائفة استغلالا لعقله الذي ما زال نقيا بكرا. تشعره بأنها تمتلك الحلول التي ستنقذه من وطأة هذا الحرف – القاسي – وإلا فإن الإنسان الذي بنى هذه القرى على هذه الأحجار الطائرة في منتصف المسافة ما بين السماء والأرض لا يمكن له إلا أن يكون رسالة استخلاف وبناء ولا يمكن إلا أن يكون عقلا موجبا متطورا قبل أن تواجهه ثورة العصر الحديث ورفاهية الدنيا من حوله فيما هو ما زال أسيرا لهذا الحرف القاهر.
وباختصار، اليمن واليمني هو وطأة الفارق بين أمسه ويومه مثلما هو وطأة الفارق بينه وبين مجايليه في العصر الحديث من حوله. قد نكمل.