قال ابن القيم رحمه الله : من وَطَّنَ قلبَه عند ربه سكن واستراح ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق لا تدخل محبة الله فى قلب فيه حب الدنيا الا كما يدخل الجمل فى سم الابرة. الفوائد .
إن قوة القلب وعدم انزعاجه وعدم استرساله جرياً وراء الخيالات والأوهام الفاسدة، إنما يكون بإيمان يملئه، واعتماد على الله وتوكلٍ عليه .
إن مما يزيل القلق والاضطراب ويبعث على التفاؤل، الإيمان بقضاء الله وقدره، ذلك الركن العظيم، من أركان الإيمان، عندما تتأمل يا مسلم، يا عبد الله، في قول الله {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إن ذلك على الله يسير }(الحديد: من الآية22).
أنها عند الله مكتوبة قبل أن تخلق، أنها عند الله مسطورة قبل أن توجد، أنها عند الله مثبتة قبل أن تكون في الواقع،.
لماذا كتبت المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؟ لماذا ؟ لماذا لم تكن مكتوبة وليدة لحظتها، قال -عز وجل- : {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}(الحديد: من الآية23).
ما دام أنه مكتوب، من زمان، من قديم، ففيما الأساة؟ هذا شيء قد فُرغ منه؟ ففيما الحزن؟ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم}(الحديد: من الآية23). فإذا وقع الحادث، مصيبة ،وفاة ،خسارة، وفقدان وظيفة، مرض، كله قد كتبه الله، كله قد قضاه، كله قد فُرغ منه وانتهى، جفت الأقلام، وطويت الصحف، جف القلم على ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا أصابك القلق على رزق، فلتعلم أن الله هو الرزّاق، وعنده الرزق، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}(العنكبوت: من الآية17). وليس عند غيره، ورزق الله لا يجلبه حرص حريصاً، ولا يرده كراهية كاره، ولكن يؤخذ بالأسباب الشرعية، ومقادير الخلائق قد قدّرت سابقاً،{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذريات:22) ، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(هود: من الآية6).
الشيطان يستخدم خوف الفقر سلاحاً يزعج به المؤمن، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}(البقرة: من الآية268). ويثبط عن الصدقة، {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}البخل،{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً } بالعوض {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:268) .
ولا ينبغي لمسلم أن تكون الدنيا هي أكبر همه، والقلق الذي يصيب الناس الآن في الأزمة المالية وفي غيره نتيجة حقيقة وطبيعية ومتوقعة لمسألة حيلولة الدنيا في قلبه على رأس الأولويات، ولذلك قال : لا تجعل الدنيا أكبر همنا، لو لم تكن الدنيا أكبر الهم لنقص القلق، لنزل المستوى من الأرق، ولذلك إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله، تحمل الله عنه حوائجه كلها، وإذا أصبح وأمسى همه الدنيا وما فيها، جعل الله فقره بين عينيه، وحملّه من الهموم والغموم والأنكاد، ووكله لنفسه.
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36) .
ما مضى فات، والمؤمل غيب، يا ابن آدم إنما أنت ثلاث أيام، أمس وقد ولت، وغدك ولم يأتي، ويومك فاتق الله فيه،
لا تستعجل الحوادث وهمومها وغمومها، حتى تعيش فيها فلك من الله عون،
سهرتْ أعينٌ ونامتْ عيونُ *** في شؤونٍ تكونُ أو لا تكونُ
إن رباً كفاك بالأمسِ ما كانَ *** سيكفيك في غدٍ ما يكونُ
فبعض الناس يظل قلقاً واجماً مفكراً أرقاً، في مستقبله، ماذا سيحدث، هل سأفقد الوظيفة، هل سأبقى بلا عمل، هل سينقطع الراتب، هل سينقطع الدخل، هل سيقل، وهل وهل وهل .. حتى يموت كمداً ربما .
فلا بد أن يثق العبد بربه، وأنه لن يضيعه، ((أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا)) .والقناعة جميلة، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ)) .
ولو أصابك أرق ماذا تعمل ؟
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ -أي استيقظ من نومه- فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ)) رواه البخاري .
التوحيد مرة أخرى، التوحيد يرافق المؤمن، ليست القضية فقط نصائح أطباء، كان لسان الدين ابن الخطيب من كبار الأطباء، وألف كتابه الوصول لحفظ الصحة في الفصول - الفصول الأربعة-: والعجب مني مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب ومع ذلك لا أقدر على داء الأرق الذي بي.
حتى كان يقال له : ذو العمرين، لأن الناس ينامون وهو ساهر، ومؤلفاته غالبها بالليل .
المؤمن يلجأ إلى الله في حاجته وينزلها به، ويذكره فيطمئن قلبه، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}(الرعد: من الآية28). يعني يزول قلقها واضطرابها وتحظرها أفرحاها ولذتها، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا}(طـه: من الآية124).
وفي المقابل {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}(الأنعام: من الآية125) .
الهم إنا نسألك الأمن والإيمان، والتقوى والإحسان، أجعل نفوسنا عامرة بذكرك، أهدئ ليلنا، وأنم عيننا في طاعتك يا ربنا، اللهم اجعلنا ممن اطمئنوا بذكرك، واستأنسوا بك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن توسع لنا في أرزاقنا، وأن تسعدنا في دنيانا وآخرتنا، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله، علام الغيوب، الحمد لله الذي بذكره تطمئن القلوب، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يكشف الكروب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده، وقارع الخطوب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار، وزوجاته وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
عباد الله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد: من الآية28). هو شعار المسلم، وهو دثاره، ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله، وعجبا لمن ابتلي بالغم كيف ينسى : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"
إن القلق لمن آمن وهو يدعو ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ)). رواه مسلم في أذكار ما قبل النوم .